فصل: تفسير الآية رقم (27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ءأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً‏}‏ خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعدما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13‏]‏ ونصب خلقاً على التمييز وهو محول عن المبتدا أي أخلقكم بعد موتكم أشد أي أشق وأصعب في تقديركم ‏{‏أَمِ السماء‏}‏ أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بناها‏}‏ الخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قول تعالى أم السماء وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا‏}‏ بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديداً رفيعاً وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعاً في جهة العلو ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الامتداد من العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلا أن بمنع عنه مانع ‏{‏فَسَوَّيهَا‏}‏ أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز وجل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع وقيل جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحاً بعضها زاوية وبعضها خطاً وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير وقالوا وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها تتميمها بما يتم به كما لها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بين في علم الهيئة من قولهم سوى أمره أي أصلحه أو من قولهم استوت الفاكهة إذا نضجت وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السموات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها أهل الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ أي جعله مظلماً يقال غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال ظلم وأظلمه ويقال أيضاً أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش قال الأعشى‏:‏ عقرت لهم ناقتي موهنا *** فليلهم مدلهم غطش

وفي «البحر» عن كتاب اللغات في القرآن أغطش أظلم بلغة أنمار وأشعر ‏{‏وَأَخْرَجَ ضحاها‏}‏ أي أبرز نهارها والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمي به الوقت المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة وقيل الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكنى بذلك عن النهار والأول أقرب وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاتها وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها وقيل إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام الامتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهماً إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو وهماً إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفل كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كل في فلك يسبحون وإن الفلك ليس إلا مجرى الكوكب في السماء وقيل أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه وفي «الكشاف» أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضاً اعتبار بمرأى الناظر وقيل إضافتهما إليها باعتبا رأنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الاعتبار ما لم يكد يخطر في أذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوى وتعقب بأنهم قالوا إن ظل الأرض لمخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل وبالجملة الإضافة لأدنى ملابسة

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏والارض بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وأغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء فقط وانتصاب الأرض بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دحاها‏}‏ بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحى بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

وبث الخلق فيها إذ دحاها *** فهم قطانها حتى التنادي

وقيل دحاها سواها وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏

وأسلمت وجهي لمن أسلمت *** له الأرض تحمل صخراً ثقالاً

دحاها فلما استوت شدها *** بأيد وارسي عليها الجبالا

والأكثرون على الأول وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروى الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلاً قال له آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى فقال إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ‏:‏ ‏{‏قَالَ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏ثم استوى إلى السماء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9-11‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ قال خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدما خلق السماء وإنما قوله سبحانه دحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقاً ولا يكون ظاهره مدحواً مبسوطاً وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولاً ثم دحوها ثانياً خلق مادتها أولاً ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماءوهي دخان‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ فسواهن سبع سموات إن السماء خلقت مادتها أولاً ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثم استوى إلى السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السموات ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السموات وأجيب بأن خلق في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولاً فأولاً سلمنا أن المراد الايجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل ومن الناس من حمل مثم على التراخي الرتبي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض وقال عصام الدين أن بعد ذلك هنا كما في قوله تعالى

‏{‏عُتُلٍ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 13‏]‏ يعني فعل بالأرض ما فعل بعدما سمعت في السماء والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ورعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كل يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن اغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلاً ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة وأيضاً قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكره وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسن مادة الاشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مأخر فقال ابن الطاشكبري نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة وأن البعدية ههنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى ‏{‏خلق الأرض في يومين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ وكذا في قوله سبحانه ‏{‏وجعل فيها رواسي‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ وقالوا يؤيد ما ذكر قوله تعالى ‏{‏فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أئينا طائعين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ فإن الظاهر أن المراد أئتيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي البقرة والدخان على خلق السموات والعكس ههنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان وتعداد النعم على أهل الكفر والايمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى وفي «الكشف» أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلا ما نقل الواحدي في «البسيط» عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من أطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الأرض منصوباً بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمراً على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقاً من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيهاً على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم كما تقول جملاً ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 30‏]‏ الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخاناً سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى ‏{‏ثم استوى إلى السماء وهي دخان‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال لمبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روى أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الإثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت أوما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيراً لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المراد وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا‏}‏ بأن فجر منها عيوناً وأجرى أنهاراً ‏{‏ومرعاها‏}‏ يقع على الرعي بالكسر وهو الكنز والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل إنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للإنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن وقال الطيبي يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة ‏{‏أأنتم أشد خلقاً‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27‏]‏ كأنه قيل أيها المعاندون المللزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه وكلا الوجهين مقتضى لتجريد الجملة عن العاطف وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏والجبال‏}‏ منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أرساها‏}‏ أي أثبتها وفيه تنبيه على أن الرسول المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول وقرأ عيسى برفع ‏{‏الأرض‏}‏ والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع الأرض والجبال وهو على ما قيل على الابتداء وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بناها‏}‏ لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 28‏]‏ بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الاختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك وقيل إن جملة قوله تعالى ‏{‏والارض‏}‏ الخ على القراءتين ليس معطوفة على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا‏}‏ لأنها لا تصلح بياناً لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء وجملة اسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى وجوز عطف الأرض بالرفع على ‏{‏السماء‏}‏ من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقاً والأرض بعد ذلك أي والأرض بعدما ذكر من السماء أشد خلقاً فيكون وزان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دحاها‏}‏ الخ وزان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بناها‏}‏ الخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعراً بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏متاعا لَّكُمْ ولانعامكم‏}‏ قيل مفعول له أي فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو إخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره وقيل مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك مختاعاً أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 31‏]‏ في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصاً بالحاضرين إلا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضاً على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافاً لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى‏}‏ الخ شروع في بيان معادهم أثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز وجل ‏{‏متاعاً‏}‏ الخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبىء عنه لفظ المتاع والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل جرى الوادي فطم على القرى وجاء السيل فطم الركي وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل فوصفها بالكبرى للتأكيد ولو فسرها كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصاً وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقاً وقيل غير ذلك وأنت تعلم أن الطامة الكبرى صارت كالعلم للقيامة وروى كونها اسماً من أسمائها هنا عن ابن عباس أيضاً وعن الحسن أنها النفخة الثانية وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى‏}‏ بدل كل أو بعض من ‏{‏إذا جاءت‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 31‏]‏ على ما قلي وقيل بدل من الطامة الكبرى فيكون مرفوع المحل وفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين وتكون الطامة حقيقة التذكر والبروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الابتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة ولا يخفى تعسفه وقيل ظرف لجاءت وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب باعني تفسيراً للطامة الكبرى وما موصولة وسعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدوناً في صحيفته وقد كان نسبه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحصاه الله ونسوه‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 6‏]‏ ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر وجوز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَبُرّزَتِ الجحيم‏}‏ عطف على ‏{‏جاءت‏}‏ وقيل على ‏{‏يتذكر‏}‏ وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه والموصول بعد مغن عن العائد وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل ومعنى برزت أظهرت إظهاراً بيناً لا يخفى على أحد ‏{‏لِمَن يرى‏}‏ كائناً من كان يروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء وقرأت عائشة وزيد بن علي عكرمة ومالك بن دينار وبرزت مبنياً للفاعل مخففاً لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 12‏]‏ وإسناد الرؤية لها مجازاً وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها ويجوز أن تكون خطاباً لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَىإذ المجرمون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ أي لمن تراه من الكفار وقرأ أبو نهيك وأبو السماء وهرون عن أبي عمرو وبرزت مبنياً للمفعول مخففاً وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ طَغَى ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَمَّا مَن طغى‏}‏ الخ جواب ‏{‏إذا‏}‏ على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدِىَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 38‏]‏ الآية وقولك إذا جاءك بنو تميم فاما العاصي فاهنه وأما الطائع فاكرمه واختاره أبو حيان وقيل جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا‏}‏ الخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جواباً غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلا زيادة المبالغة وتحقيق الترتيب والثبوت على كل تقدير وقيل هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤن قسمين وليس بذاك أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاثَرَ‏}‏ أي اختار ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالايمان والطاعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّ الجحيم‏}‏ التي ذكر شأنها ‏{‏هِىَ المأوى‏}‏ أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن ال في مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عدم كونها عوضاً ورابطاً وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري‏.‏ وهي أما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ‏}‏ أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مقام مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز وجل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَكْرِمِى مَثْوَاهُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 21‏]‏ وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن ‏{‏وَنَهَى النفس عَنِ الهوى‏}‏ أي زجرها وكفها عن الهوى المردى وهو تلميل إلى الشهوات وضبطها بالطبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علماً بوخامة عاقبتها وعن ابن عباس ومقاتل أنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يدي ربه سبحانه فيخاف فيتركها وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه قال بعض الحكماء إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه وقال الفضيل أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي‏:‏

فخالف هواها واعصها أن من يطع *** هوى نفسه تنزع به شر منزع

ومن يطع النفس اللجوجة ترده *** وترم به في مصرع أي مصرع

إلى غير ذلك وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلا أن الشالم من من الموافقة قليل قال سهل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى‏}‏ له لا غيرها والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزيز بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغياً مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفاً مقام ربه ناهياً النفس عن الهوى وقد وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عن حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة والسلام متشحطاً في دمه قال عند الله تعالى احتسبك وقال لأصحابه لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال ما هولي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً وفي «الكشاف» أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضاً أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر وابنه الحرث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها‏}‏ أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها فالمرسي مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الاستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها وجوزأن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسي السفينة حيث تنتهي إليها وتستقر فيه كذا قيل وتقدير الاستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله كما أن الخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الاستعارة بجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل وقت داركه مستقراً له فتدبر وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا‏}‏ إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ كأنك حفى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ عنها فالاستفهام للإنكار وفيم خبر مقدم وأنت مبتدأ مؤخر ومن ذكراها على تقدير مضاف أي ذكري وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فيم إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتدىء فقيل أنت من ذكراها أي ارسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏‏}‏

فمعنى قوله تعالى‏:‏ إلى ربك منتهاها على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز وجل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏‏}‏

وقوله تعالى ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها‏}‏ عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 43‏]‏ وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلى الله عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن ليس له عليه الصلاة والسلام أن يذكرها بوجه من الوجوه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلى الله عليه وسلم ذكراها لهم بتعيين وقتهما حسبما كانوا يسألونه عنها فالمعنى إنما أنت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليه فما لهم يسألونك عما لم تبعث له ولم يفوض إليك أمره وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أنت من ذكراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني‏.‏‏.‏‏.‏» والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الفة والمعنى ما أنت إلا منذر لا معلم بالوقت مبين له وإنما ذكر صلة المنر إظهاراً لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في القصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى أي ما أنت منذر إلا من يخشى دون غيره غير مناسب للمقام على أنه قيل عليه أن من يخشى من صلة منذر ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء الأخير المقصور عليه الإنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضاً أن لا يصح إنما هو غلام زيد لا عمرو وإنما هو ضارب عمراً لا زيداً مع شهرة استعمال ذلك من غير نكير فتأمل والظاهر على الثاني أن إنما لمجرد التأكيد زيادة في الاعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض عليه بحسب الظاهر على ما قيل وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها‏}‏ اما تقرير وتأكيد لما ينبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنه يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلا قليلاً وأما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية الخ وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عشيته أو ضحاها فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في «الكشف» من حيث أنك إذا قلت لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر أما إذا قلت عشيته أو ضحاها لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه وقال الطيبي أنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازاً فلما أضيف أفاد التأكيد ونفى ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسناً كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز كونه فيهما واختار في الإرشاد ما قدمنا وقال إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقاً للإنذار ورداً لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلا تلك المدة اليسيرة وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسناً في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على ‏{‏فيم‏}‏ ثم يستأنف ‏{‏أنت من ذكراها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 43‏]‏ لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيمَ‏}‏ الخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة ‏{‏يَسْأَلُونَكَ‏}‏ الخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أنت من ذكراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت الخ والجواب عليه قوله تعالى ‏{‏إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 44‏]‏ ولا يخفى ضعف ذلك وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلى الله عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز وجل‏:‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ كأنك حفي عنها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ يرده إذ المراد أنك لا تحتفى بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الاحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية منذر بالتنوين والأعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار المشابهة والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الأعمال والاعمال عارض للشبه والوصف عند إعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والاستقبال وإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة كقولك هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة يخشى ولا ينافي أنه صلى الله عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الاستمرار ومثله يجوز فيه الاعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك في كتب الأصول فلا تغفل والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة عبس‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏عَبَسَ وتولى أَن جَاءهُ الاعمى‏}‏ الخ روى أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأولى أكثر وأشهر كما في «جامع الأصول» وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية وغلط الزمخشري في جعلها في «الكشاف» جدته وكان أعمى وعمى بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يكرمه ويقول إذا رآه مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول هل لك من حاجة واستخلفه صلى الله عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب من أهل العلم بالسير ثم استخلف بعده أبا لبابة وهو من المهاجرين الأولين هاجر على الصحيح قبل النبي صلى الله عليه وسلم ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني وأنه لم يجتمع بالصناديد المذكورين من أهل مكة وموته قيل بالقادسية شهيداً يوم فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه ورآه أنس يومئذ وعليه درع وله راية سوداء وقيل رجع منها إلى المدينة فمات بها رضي الله تعالى عنه وضمير عبس وما بعده للنبي صلى الله عليه وسلم وفي التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بضمير الغيبة إجلال له صلى الله عليه وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم مثله كما أن في التعبير عنه صلى الله عليه وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى‏}‏ ذلك لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض والتعبير عن ابن أم مكتوم بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم وقيل إن الغيبة أولاً والخطاب ثانياً لزيادة الإنكار وذلك كمن يشكو إلى الناس جانياً جني عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى على الشكاية مواجهاً بالتوبيخ وإلزام الحجة وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك لأنه وصف يناسب الإقبال عليه والتعطف وفيه أيضاً دفع إيهام الاختصاص بالأعمى المعني وإيماء إلى أن كل ضعيف يستحق الإقبال من مثله على أسلوب لا يقضي القاضي وهو غضبان وأن بتقدير حرف الجر أعني لام التعليل وهو معمول لأول الفعلين على مختار الكوفيين وثانيهما على مختار البصريين وكليهما معاً على مذهب الفراء نعم هو بحسب المعنى علة لهما بلا خلاف أي عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك وقرأ زيد بن علي عبس بتشديد الباء للمبالغة لا للتعدية وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى آن بهمزة ومدة بعدها وبعض القراء بهمزتين محققتين والهمزة في القرائتين للاستفهام الإنكاري ويوقف على تولي والمعنى إلا إن جاء الأعمى فعل ذلك وضمير لعله للأعمى والظاهر أن الجملة متعلقة بفعل الدراية على وجه سد مسد مفعوله أي أي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يَذَّكَّرُ‏}‏ أي يتعظ ‏{‏فَتَنفَعَهُ الذكرى‏}‏ أي ذكراك وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكي أو يذكر والترجي راجع إلى الأعمى أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكيه أو كونه ممن يرجى منه ذلك كاف في الامتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استركاؤه محققاً ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحاً لذلك وفيه إظهار ما يقتضي مقام العظمة ههنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه الاسم لا الكامل وقال بعضهم متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك وقوله سبحانه ‏{‏لَعَلَّهُ‏}‏ الخ استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإن مع إشعاره بأن له شأنا منافياً للإعراض عنه خارجاً عن دراية الغير وإدرائه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك واعتبر في التزكي الكمال فقال أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الإثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم تبلغ درجة التزكي التام ولعل الأول أبعد مغزى وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم الثاني بما إذا كان يتعلمه من النوافر والأول بما إذا كان سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلى الله عليه وسلم لتزيكتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً فهي كقولك لمن يقرر مسألة لمن لا يفهمها وعنده آخر قابل لفهمها لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده وقيل جاء التعريض من جهة أن المحدث عنه كان متزكياً من الآثام متعظاً وقيل ضمير لعله للكافر والترجي راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي إنك طمعت في تزكيه بالإسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن وضعف بعدم تقدم ذكر الكافر وبإفراد الضمير والظاهر جمعه أي بناء على المشهور في أن من تشاغل عليه الصلاة والسلام به كان جمعاً وجاء في بعض الروايات أنه كان واحداً وقرأ الأعرج وعاصم في رواية أو يذكر بسكون الذال وضم الكاف وقرأ الأكثر فتنفعه بالرفع عطفاً على يذكر وبالنصب قرأ عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وهو عند البصريين بإضمار أن بعد الفاء وعند الكوفيين في جواب الترجي وهو كالتمني عندهم ينصب في جوابه وفي «الكشف» أن النصب يؤيد رجوع ضمير لعله على الكافر لإشمام الترجي ومعنى التمني لبعد المرجو من الحصول أي بالنطر إلى المجموع إذ قد حصل من الباس وعلى السابق وجهه ترشيح معنى الهضم فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّا مَنِ استغنى‏}‏ أي عن الايمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن وفي معناه ما قيل استغنى بكفره عما يهديه وقيل أي وأما من كان ذا ثروة وغنى وتعقب بأنه لو كان كذلك لذكر الفقر في مقابله وأجيب بما ستعمله إن شاء الله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَنتَ لَهُ تصدى‏}‏ أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام بإرشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة ومن هنا قيل‏:‏

لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي *** ولا ألين لمن لا يبتغي ليني

والله لو كرهتا كفى مصاحبتي *** يوماً لقلت لها عن صحبتي بيني

وقرأ الحرميان تصدى بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت التاء صاداً وأدغمت وقرأ أبو جعفر تصدى بضم التاء وتخفيف الصاد مبنياً للمفعول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدي والتعرض له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه، وأصل تصدى على ما في «البحر» تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها وقيل من الصدى وهو العطش وقيل من الصدى وهو الصوات المعروف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى‏}‏ وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير تصدى والممنوع عنه في الحقيقة الإعراض عمن أسلم لا الإقبال على غيره والاهتمام بأمره حرصاً على إسلامه ويجوز أن تكون ما استفهامية للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى‏}‏ أي حال كونه مسرعاً طالباً لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَهُوَ يَخْشَى ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ يخشى‏}‏ أي يخاف الله تعالى وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل يسعى كما أن جملة يسعى حال من فاعل جاءك واستظهر الأفاضل أن النظم الجليل من الاحتباك ذكر الغنى أو لا للدلالة على الفقر ثانياً والمجيء والخشية ثانياً للدلالة على ضدهما أولاً وكأ حمل استغنى على ما نقل أخيراً واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف وعدم الاحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَنتَ عَنْهُ تلهى‏}‏ تتشاغل يقال لهي عنه كرضي ورمي والنهي وتلهى‏.‏ وفي تقديم ضميره عليه الصلاة والسلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة والسلام وتقديم له وعنه قيل للتعريض بالاهتمام بمضمونهما وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الاشتغال به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للاشعار بأن العتاب للاهتمام بالأول لا للاشتغال به إذ الاشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الاشتغال عن الثاني لا لأنه لا اهتمام له صلى الله عليه وسلم في أمره إذ الاهتمام غي رواجب لأنه عليه الصلاة والسلام ليس إلا منذراً وقرأ البزي عن ابن كثير عنه و‏{‏تلهى‏}‏ بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو جعفر ‏{‏تلهى‏}‏ بضم التاء مبنياً للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء الكافر للإسلام وطلحة تتلهى بتاءين وعنه بتاء واحدة وسكون اللام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ مبالغة في إرشاده صلى الله عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوتب عليه صلى الله عليه وسلم وقد نزل ذلك كما في خبر رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه الصلاة والسلام نجواه وذهب إلى أهله وجوز كونه إرشاداً بليغاً إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة والسلام بناء على أن النزول في أثناء ذلك وقبل انقضائه وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم بعدما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك أدباً حسناً فقد روى عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء والضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهَا‏}‏ للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ والجملة المؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة واللاسم له والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن والحث على حفظه أو الاتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها بالفاء قد صرح به ابن مالك في «التسهيل» من غير نقل اختلاف فيه كلام الزمخشري في «الكشاف» عند الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر‏}‏ نص في ذلك نعم قيل إنه قيل له فمن شاء ذكره اعتراض فقال لا لأن الاعتراض شطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت ويمكن أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى وما ألطف قول السعدي في التلويح الاعتراض يكون بالواو والفاء‏.‏ فاعلم فعلم المرء ينفعه *** هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآناً ورجح بعدم ارتكاب التأويل قبل الاحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بماسيأتي إن شاء الله تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء عليه والتعجب من كفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتاباً وفيه أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاءما سمعت آنفاً وقيل لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونهما دعاء وهذا على ما فيه مما يأباه المقام وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏فَى صُحُفٍ‏}‏ متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة في صحف والمراد به الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ وعن ابن عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاولين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 196‏]‏ وقيل صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في الصحف وإنما كان متفرقاً في الدفاف والجريد ونحوهما وأول ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو كما ترى ‏{‏مُّكَرَّمَةٍ‏}‏ عند الله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ أي في السماء السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما قيل ‏{‏مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ منزهة عن مساس أيدي الشياطين أو عن كل دنس على ما روى عن الحسن وقيل عن الشبه والتناقص والأول قيل مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏بِأَيْدِى سَفَرَةٍ‏}‏ أي كتبة من الملائكة عليهم السلام كما قال مجاهد وجماعة فإنهم ينسخون الكتب من اللوح وهو جمع سافر أي كاتب والمصدر السفر كالضرب وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام على أنه جمع سافر أيضاً بمعنى سفير أي رسول وواسطة والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء فيه السفر أيضاً كما في «القاموس» وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم سفراء بين الله تعال والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم السلام وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب لما يوحى على أن خاتمهم صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتب القرآن وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر الأمة وقيل لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة إذ كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة بمطهرة وقيل بمضمر هو صفة أخرى لصحف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏كِرَامٍ‏}‏ أي أعزاء على الله تعالى معظمين عنده عز وجل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير بالإلهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو من الكرم ضد اللؤم ‏{‏بَرَرَةٍ‏}‏ أي أتقياء وقيل مطيعين لله تعالى من قولهم فلان يبر خالقه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع بر لا غير وأما إبرار فيكون جمع بركوب وإرباب وجمع بار كصاحب وأصحاب وإن منعه بعض النحاة لعدم إطراده واختص على ما قيل الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان الشارع صلى الله عليه وسلم وكان ذلك لأن الإبرار من صيغ القلة دون البررة ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم وقال الراغب خص البررة بهم من حيث أنه أبلغ من إبرار فإنه جمع بر وإبرار جم بار وبر أبلغ من بار كما أن عدلاً أبلغ من عادل وكأنه عنى أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من الوصف ببار لكن قد سمعت أن إبراراً يكون جمع بر كما يكون جمع بار وأيضاً في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى الآدميين مطلقاً بحث وقيل إن الأبرار أبلغ من البررة إذ هو جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار إشارة إلى مدحهم بأكمل الأوصاف وأما الملائكة فصفات المال فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفظيلة البشر لما في كونهم إبراراً من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏قُتِلَ الإنسان‏}‏ دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها ‏{‏مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والايمان به وإما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده ورجح هذا بأن الآية نزلت على ما أخرج ابن المنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه» فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار أن أصبح حياً فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حول فأقبل أسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبو يندبه ويبكي عليه ويقول ما قال محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً قد إلا ان وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أصول من هذا الخبر فلا تغفل ثم أن هذا كلام في غاية الإيجاز وقد قال جار الله لا ترى أسلوباً أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطاً في المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه حيث اشتمل على ما سمعت من الدعاء مراداً به إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع وقال الإمام أن الجملة الأولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفاً والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعاً ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب إلى امرىء القيس من قوله‏:‏

يتمنى المرء في الصيف الشتا *** فإذا جاء الشتا أنكره

فهو لا يرضى بحال واحد *** قتل الإنسان ما أكفره

لا أصل له ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد أراد الاقتباس لا جاهلي وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الإنسان‏}‏ خبراً عن أنه سيقتل الكفار بإنزال آية القتال وعبر بالماضي مبالغة في أنه سيتحقق ذلك وليس بيء ونحوه ما قيل إن ما استفهامية أي أي شيء أكفره أي جعله كافراً بمعنى لا شيء يسوع له أن يكفر وقوله تعالى‏:‏